السماع و المديح : فن خطاب القلوب
السماع و المديح : فن خطاب القلوب
يعتبر السماع من أهم الروافد الثقافية الراسخة في الموروث المغربي الأصيل و يشكل جانبا هاما من التراث الزاخر الذي تميز المغاربة بالمحافظة عليه وتوارثه عبر الأجيال المتعاقبة منذ قرون خلت ومحط إهتمام العلماء الربانيين لما يحمل من معاني التعلق والتضرع بالله و محبة في رسوله الكريم صلى الله عليه و سلم .
و هو تلك اللطيفة التي تغشى قلوب الذاكرين تعبيرا عن محبة الله و محبة رسول الله صلى الله عليه و سلم و محبة أهل الفضل و الصلاح، و ذلك بترديد قصائد والوصلات الشعرية المديحية التي يتناشدها المنشيدون بأصواتهم الشجية التي تسمو بالروح لتشهد معاني الجمال و تعطر قلوب المحبين بنفحات من القرب الإلهي، و السماع و المديح هو فن العشق و الهيام الذي يترجم معاني القرب و الوصال التي تسمو به القلوب و الوجدان لحضرة الحق عز و جل .
و للسماع أثر في إحداث الأحوال النفسية السامية و المتمثلة في المشاعر التي تقرب القلوب من الله كالطمأنينة و الخشية و الشوق و الحزن و الصرور و الوجل و لين القلب .
و ما السماع و المديح إلا نسمة القرب لتي تهب على قلوب الذاكرين، تحرك أشجار المعاني المغروسة في أرواحهم و أغصان المحبة والشوق إلى معرفته تعالى، وذلك بترديد قصائد تحمل المعاني السامية ، والفضائل النبيلة، ، والأمداح النبوية، وكل ما فيه حكمة ورقة وذكرى وموعظة حسنة تقرب العبد من مولاه.
كما جاء في الحديث القدسي: » أنا مع عبدي إذا ذكرني : إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه »
و على قول الشيخ أبي مدين التلمساني :
إني إذا ما ذكرت ربي اهتز شوقي إلى لقاه
وقد إرتبط ظهور فن السماع ببزوغ شمس الإسلام فكانت الغاية منه تربوية وروحية ترسخ الهوية الإسلامية وتأهل المريد ، لسلوك أطوار التجربة الروحية وما من شأنه أن يختلج في دواخله من أحوال ومقامات
ولا خلاف في أن الأشعار أُنشِدت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لحظة دخوله المدينة مهاجرا إليها من مكة فاستقبلته جموع الأنصار و المهاجرين فرحين بقدومه صلى الله عليه وسلم و هم ينشدون :
طــلــع الــبــدر علينا مــن ثنيــــات الوداع وجـب الشـكــر علينا مـــا دعـــــــا لله داع
وقد جرى على لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو قريب من الشعر، فقد قال أنس بن مالك – رضي الله عنه : » كان الأنصار يحفرون الخندق فجعلوا يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
فأجابهم صلى الله عليه وسلم:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجره
إن الأصل في السماع الشرعي لفظا ومعنى وإنشادا وتأثرا، ما أخرجه البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع قال: “خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسرنا ليلا، فقال رجل للشاعر عامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هُنيْهَاتِك؟ فأخذ يحدو ويسوق، وأسمعهم من شعر ابن رواحة الأبيات مطلعها:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فقال رسول الله صل الله عليه وسلم «من هذا السائق ؟» فقالوا: عامر بن الأكوع، فقال: «يرحمه الله» . فاستحق الشاعر عامر بن الأكوع الرحمة من نبي الله، جزاء أن أسمع الرسول وصحابته كلاما حسنا مستمدا من الحقيقة الإلهية.
قال أبو القاسم الجنيد رحمه الله : السماع لا يحدث في القلوب شيئا وإنما هو مهيج ما فيها فتراهم يهيجون من وجدهم وينطقون من حيث قصدهم ويتواجدون من حيث كامنات سرائرهم، لا من حيث قول الشاعر، ولا يلتفتون إلى الألفاظ لأن الفهم سبق إلى ما يتخيله الذهن”.
فقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا البعد الروحي الوجداني حقه من الاهتمام فقد أوكل أداء الآذان للصحابي الجليل بلال بن رباح لما كان يتميز به من صوت جميل وحلاوة في الأداء، وكان يقول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود : إقرأ القرآن فإني أحب أن أسمعه منك فقد أتاك الله مزمارا من مزامير داوود.
فالتصوف في حقيقته، هو مذهب وجداني، عمل كبارئه على نقل أحاسيسهم ومشاعرهم وما فتح الله عليه ممن خلال قصائد شعرية عذبة، تخاطب أبياتها القلوب والأرواح، لتحلق بنفوس السامعين وبهديها وتزكيتها إلى عوالم بعيدة وآفاق لاحدود لها، مبتغاها القرب من الله وما الإنشاد الجماعي إلى شكل من أشكال الذاكرة الجماعية الروحية للأمة الإسلامية ينصهر الجميع من خلاله في عبادة المولى عز وجل .
Walid Ibkane